مقالة لمجلة جمعية المهندسين القطرية
المعمارى والمجتمع
د. ياسر محجوب
قسم العمارة والتخطيط العمراني - كلية الهندسة - جامعة قطر
يقول ابن خلدون "في صناعة البناء":
هذه الصناعة هي أول صنائع العمران الحضري وأقدمها وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للكن والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أن الإنسان لما جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله لابد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها ..... (مقدمة ابن خلدون)
شهدت قطر تغيرات عمرانية واجتماعية وثقافية سريعة نتيجة الطفرة الاقتصادية وظهور البترول ثم اكتشاف الغاز. وقد أثرت تلك التغيرات على كافة نواحي الحياة وخاصة على البيئة العمرانية. فمع تزايد القدرة الاقتصادية تغيرت احتياجات الدولة ومتطلبات الفرد والمجتمع. وتغيرت البيئة العمرانية من بيئة عمرانية تقليدية إلى تجمعات مدنية كبيرة تتوافر فيها الطرق الواسعة للسيارات والمباني عامة والحكومية والأسواق التجارية والمباني العالية وخلافه. وعلى مستوى الفرد والأسرة تغير السكن من بيوت تقليدية مبنية بمواد البناء والتكنولوجيا المحلية المتوفرة في المنطقة إلى أنماط سكنية متطورة مثل القصور والفيلات والمجمعات السكنية. وتوافرت طرق وأساليب ومواد الإنشاء الحديثة التي أثرت تأثيرا كبيرا على التصميم المعماري وأدى ذلك إلى ظهور بيئة عمرانية مختلفة تماما عن البيئة العمرانية التقليدية.
المعماري والمجتمع
إن طبيعة عمل المعماري واشتراكه في تصميم وإنشاء مختلف مكونات البيئة العمرانية من مساكن ومدارس ومصانع وفنادق ومستشفيات وأسواق تجارية وجميع ما تحتاجه البيئة العمرانية على مختلف مستوياتها وأشكالها تجعله في موقف متميز يرى منه بالتجربة الشخصية المباشرة النتائج العملية والاجتماعية للبرامج الإنشائية الحكومية والاستثمارات الخاصة وتأثيرها على مستوى المعيشة وكيفيتها. لذلك دائما ما يكون المعماريون من أوائل من يشير إلى وجود المشكلات الاجتماعية وأهمية وكيفية علاجها ومن أمثلة ذلك إشارة المعماريون إلى مشاكل وسط المدينة والتطور العمراني السريع ومشاكل انعزالية الضواحي ومشاكل الإسكان والخدمات. والمعماري كأحد أفراد المجتمع يتأثر بما يجرى حوله في المجتمع وينعكس ذلك على عمله وقيمه وتطلعاته.
ويرى المعماريين ان دورهم هو التعبير عن الثقافة والفلسفة العامة السائدة في مجتمعهم من خلال أعمالهم المعمارية ومبانيهم. ففي عصر الحداثة وتحكم الآلة في جميع أوجه الحياة اقترح المعماري العالمي لوكوربوزييه النظر للمسكن كآلة للسكن. ومن أقواله المشهورة: "المسكن هو آلة للسكن فيها" وهي نظرة تعكس سيطرة الآلة وتفوقها في مجال الصناعة والتكنولوجيا وانعكاس ذلك على جميع نواحي الحياة. وعبارة ميس فان دروه المشهورة "القليل كثير" التي تعبر عن الاتجاه التجريدي للحضارة وسرعتها وخلوها من الإضافات. فعمارة الحداثة كانت تعكس أوضاع وطرق التفكير السائدة في ذلك الوقت مثلما كانت وستظل العمارة دائما تعكس أوضاع المجتمع.
مهام المعماري
وتتضمن المهام التقليدية للمعماري العمل مع العميل لتفهم احتياجات المشروعات والبرامج المطلوبة لها وتصميم المشروعات وتحقيق التصميم المطلوب من خلال الرسومات التنفيذية للمشروع. ويقوم المعماري بتحديد برنامج المشروع ودراسة العروض المقدمة من المقاولين وإدارة تنفيذ المشروع وتقدير التكاليف واختيار المقاول وتقييم المشروعات بعد الاستخدام ونظم تشغيل وصيانة المباني. ويساهم المعماري في جميع تلك الأعمال حيث يتدخل في اتخاذ القرارات العديد من الأفراد أو الجهات التي لها صلة مباشرة بالمشروع سواء من ناحية الانتفاع أو التمويل أو التنفيذ.
ويشير تاريخ وتطور المهنة إلى فقدان المعماري التحكم في تحمل العديد من تلك المسئوليات. ففي عصور ما قبل الثورة الصناعية كان للمعماري دور اكبر وتحكم كامل في عملية البناء. كان دور المعماري يشمل تحديد الاحتياجات والتصميم والإشراف الفعلي على تنفيذ البناء وأحيانا القيام بتنفيذ بعض الأعمال بنفسه. وقد بدأ دور المعماري يتغير مع بداية الثورة الصناعية نتيجة تطور الصناعة والتكنولوجيا وأساليب التمويل ونظم الإنشاء. فبينما كان المعماري في الماضي يتمتع بتحكم كامل في عملية البناء فان عملية البناء اليوم يتدخل فيها العديد من التخصصات والمجالات والأعمال. فدراسات الجدوى وتحديد الاحتياجات يتحكم فيها المخططون وعلماء الاجتماع والتنفيذ يتدخل فيه الممول والمقاول.
المعماري والعميل
تتأثر علاقة المعماري بالعميل بالمصالح المتبادلة بينهما. ففي حين تكمن مصلحة المعماري في القيام بتصميم المشروع والإشراف على التنفيذ في أحسن صورة ممكنة تكون مصلحة العميل في تنفيذ المشروع وتحقيق الانتفاع منه بأقل تكلفة ممكنة. ومن أهم المشاكل التي يقابلها المعماري عدم تقدير الجهد والتكلفة والزمن اللازم لتصميم المشروع وعمل الرسومات الابتدائية والرسومات التنفيذية ومستندات العطاء حيث تتراوح النسبة اللازمة لإنجاز تلك الأعمال من 2 إلى 10 % في بعض الأحيان في حين لا يكون هناك منتج يشعر العميل بقيمته. وتكمن المشكلة في التعارض بين المصالح نتيجة بعض القرارات، فالتكلفة يتم تخفيضها على حساب الراحة والكفاءة وغالبا ما يكون ذلك على حساب المستخدم النهائي للمبنى.
دور المعماري في تحقيق التنمية المستدامة
تعرف التنمية المستدامة بأنها "تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها" وهى بالنسبة للمعماري تعنى تصميم وتنفيذ المشروعات بما يحافظ على المصادر الطبيعية والتكلفة أثناء التنفيذ والتشغيل وتلبية الاحتياجات الإنسانية والثقافية والاجتماعية للمستعملين الحاليين والمستقبليين. ويعتبر دور المعماري أساسيا في تحقيق التنمية المستدامة من خلال تطبيق معايير العمارة المستدامة المفروضة من خلال قوانين وتشريعات البناء أو اختيار تطبيق استراتيجيات الاستدامة والعمارة الخضراء في التصميم حيث تعتبر قطاعات البناء والتشييد من اكبر المستهلكين الرئيسيين للموارد الطبيعية والمواد والمياه والطاقة، ومن جهة أخرى فإن عمليات صناعة البناء والتشييد الكثيرة والمعقدة ينتج عنها كميات كبيرة من الضجيج والتلوث والمخلفات الصلبة. وتبقى مشكلة هدر الطاقة والمياه من أبرز المشاكل البيئية والاقتصادية للمباني بسبب استمرارها واستمرارها طوال فترة تشغيل المبنى. وتحقق استراتيجيات الاستدامة الخفض في استهلاك الطاقة والتكلفة الإنشائية والتشغيلية للمشروعات وتحقيق الراحة الإنسانية النفسية والاجتماعية والثقافية للمستعملين. وللمعماري دور هام في توعية العميل عن أهمية تطبيق استراتيجيات الاستدامة في تصميم جميع أنواع وأحجام المشروعات.
مستقبل مهنة المعماري
يجب التفكير في أسلوب جديد للعمل المعماري لكي يتمكن المعماري من التعامل مع جميع المهام المعمارية التي يتطلبها المجتمع من تحديد احتياجات و وضع برنامج وتصميم وتنفيذ المشروعات. فالقرارات التصميمية يجب أن يكون لها نفس أهمية البرامج الإنشائية والتنفيذ. وللوصول إلى ذلك يجب أن نتفهم مهام المعماري في المستقبل وهذه المهام توفر الوسائل التي يحتاجها المهندس المعماري ليفي بدوره المهني في المجتمع و واجباته تجاه العميل. وبالطبع لا يسمح تعدد تلك المهام بالقيام بها عن طريق شخص واحد ولكن يمكن تحقيقها عن طريق عدد من المهندسين المعماريين يكملون بعضهم بعضا. وتشمل مهام المعماري بجانب تصميم المشروع وضع البرامج وتطويرها و المشاركة في عمل دراسات الجدوى والإدارة العامة للتنفيذ والتصميم وإدارة المشروعات وجداول التنفيذ ودراسة الميزانيات والتحليل المالي وصيانة وتشغيل المباني.
التعليم المعماري
وللمؤسسات التعليمية دور هام في تحقيق هذا الدور الجديد للمعماري والأخذ في الاعتبار التغيرات التي تطرأ على ممارسة المهنة حيث تمثل المؤسسات التعليمية المصدر الأول في تخريج المعماريين وتحديد المؤهلات المطلوبة لممارسة مهنة العمارة في الدولة، و يساهم التعليم ما بعد الجامعي في تطوير دور المعماري في المجتمع من خلال اللقاءات العلمية والمحاضرات العامة والتعليم المستمر.
No comments:
Post a Comment